فصل: ذكر عصيان كرمان على جلال الدين ومسيره إليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خلافة الظاهر بأمر الله:

قد ذكرنا سنة خمس وثمانين وخمسمائة الخطبة للأمير أبي نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد، ثم بعد ذلك خلعه الخليفة من ولاية العهد، وأرسل إلى البلاد في قطع الخطبة له، وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولده الصغير علي، فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة اثنتي عشرة وستمائة، ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد، فاضطر إلى إعادته، إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيء.
فلما توفي أبوه ولي الخلافة، وأحضر الناس لأخذ البيعة، وتلقب بأمر الله، وعنى أن أباه وجميع أصحابه أرادوا صرف الأمر عنه، فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحد.
ولما ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً، فإنه أعاد الخراج القديم في جميع العراق، وأن يسقط جميع ما جدده أبوه، وكان كثيراً لا يحصى؛ فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديماً نحو عشرة آلاف دينار، فلما تولى الناصر لدين الله كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار، فحضر أهلها واستغاثوا، وذكروا أن أملاكهم أخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ، فأمر أن يؤخذ الخراج القديم وهو عشرة آلاف دينار، فقيل له إن هذا المبلغ يصل إلى المخزن، فمن أين يكون العوض؟ فأقام لهم العوض من جهات أخرى؛ فإذا كان المطلق من جهة واحدة سبعين ألف دينار، فما الظن بباقي البلاد؟ ومن أفعاله الجميلة أنه أمر بأخذ الخراج الأول من باقي البلاد جميعها، فحضر كثير من أهل العراق، وذكروا أن الأملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديماً يبس أكثر أشجارها وخربت، ومتى طولبوا بالخراج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج، فأمر أن لا يؤخذ الخراج إلا من كل شجرة سليمة، وأما الذاهب فلا يؤخذ منه شيء، وهذا عظيم جداً.
ومن ذلك أيضاً أن المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط، يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس، فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير، وأوله {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} المطففين: 1. قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا، فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون، واليهود، والنصارى.
فكتب بعض النواب إليه يقول: إن هذا مبلغ كثير، وقد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار؛ فأعاد الجواب ينكر على القائل، ويقول: لو أنه ثلاث مائة ألف وخمسون ألف دينار يطلق.
وكذلك أيضاً فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان، وهي في كل دينار حبة، وتقدم إلى القاضي أن كل من عرض عليه كتاباً صحيحاً بملك يعيده إليه من غير إذن؛ وأقام رجلاً صالحاً في ولاية الحشري وبيت المال، وكان الرجل حنبلياً، فقال: إنني من مذهبي أن أورث ذوي الأرحام، فإن أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا. فقال له: أعط كل ذبي حق حقه، واتق الله ولا تتق سواه.
ومنها أن العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر، ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة، أو سماع، أو غير ذلك، ويكتب ما سوى ذلك من صغير كبير، فكان الناس من هذا في حجر عظيم، فلما ولي هذا الخليفة، جاه الله خيراً، أتته المطالعات على العادة، فأمر بقطعها، وقال: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا؛ فقيل له: إن العامة تفسد بذلك، ويعظم شرها؛ فقال: نحن ندعو الله أن يصلحهم.
ومنها أنه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط، وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال، فأصعد، ومعه من المال ما يزيد على مائة ألف دينار، وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه، ويستخرج الأمر في حمله؛ فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه، فلا حاجة لنا إليه، فأعيد عليهم.
ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون، وأمر بإعادة ما أخذ منهم. وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليعطيها عن كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال.
ومن سن نيته للناس أن الأسعار في الموصل وديار الجزيرة كانت غالية، فرخصت الأسعار، وأطلق حمل الأطعمة إليها، وأن يبيع كل من أراد البيع للغلة، فحمل منها الكثير الذي لا يحصى، فقيل له: إ، السعر قد غلا شيئاً، والمصلحة المنع منه؛ فقال: أولئك مسلمون، وهؤلاء مسلمون، وكما يجب علينا النظر في أمر هؤلاء كذلك يجب علينا النظر لأولئك.
وأمر أن يباع من الأهراء التي له طعام أرخص ما يبيع غيره، ففعلوا ذلك، فرخصت الأسعار عندهم أيضاً أكثر مما كانت أولاً، وكان السعر في الموصل، لما ولي، كل مكوك بدينار وثلاثة قراريط، فصار كل أربعة مكاكيك بدينار في أيام قليلة، وكذلك باقي الأشياء من التمر، والدبس، والأرز، والسمسم وغيرها، فالله تعالى يؤيده، وينصره، ويبقيه، فإنه غريب في هذا الزمان الفاسد.
ولقد سمعت عنه كلمة أعجبتني جداً، وهي أنه قيل له في الذي يخرجه ويطلقه من الأموال التي لا تسمح نفس ببعضها؛ فقال لهم: أنا فتحت الدكان بعد العصر، فاتركوني أفعل الخير، فكم أعيش؟ وتصدق ليله عيد الفطر من هذه السنة، وفرق في العلماء وأل الدين مائة ألف دينار.

.ذكر ملك بدر الدين قلعتي العمادية وهرور:

في هذه السنة ملك بدر الدين قلعة العمادية من أعمال الموصل، وقد تقدم ذكر عصيان أهلها عليه سنة خمس عشرة وستمائة، وتسليمها إلى عماد الدين زنكي، ثم عودهم إلى طاعة بدر الدين، وخلافهم على عماد الدين، فلما عادوا إلى بدر الدين أحسن إليهم، وأعطاهم الإقطاع الكثير، وملكهم القرى، ووصلهم بالأموال الجزيلة والخلع السنية، فبقوا كذلك مدة يسيرة.
ثم شرعوا يراسلون عماد الدين زنكي، ومظفر الدين صاحب إربل، وشهاب الدين غازي بن العادل، لما كان بخلاط، ويعدون كلاً منهم بالانحياز إليه والطاعة له، وأظهروا من المخالفة لبدر الدين ما كانوا يبطنونه، فكانوا لا يمكنون أن يقيم عندهم من أصحاب بدر الدين إلا من يريدونه، ويمنعون من كرهوه، فطال الأمر، وهو يحتمل فعلهم ويداريهم، وهم لا يزدادون إلا طمعاً وخروجاً عن الطاعة.
وكانوا جماعة، فاختلفوا، فقوي بعضهم، وهم أولاد خواجه إبراهيم وأخوه ومن معهم، على الباقين، فأخرجوهم عن القلعة، وغلبوا عليها، وأصروا على ما كانوا عليه من النفاق.
فلما كان هذه السنة سار بدر الدين إليهم في عساكره، فأتاهم بغتة، فحصرهم، وضيق عليهم، وقطع الميرة عنهم، وأقام بنفسه عليهم، وجعل قطعة من الجيش على قلعة هرور يحصرونها، وهي من أمنع الحصون وأحصنها، لا يوجد مثلها، وكان أهلها أيضاً قد سلكوا طريق أهل العمادية من عصيان، وطاعة، ومخادعة، فأتاهم العسكر وحصروهم وهم في قلة من الذخيرة، فحصروها أياماً، ففني ما في القلعة، فاضطر أهلها إلى التسليم، فسلموها ونزلوا منها.
وعاد العسكر إلى العمادية، فأقاموا عليها مع بدر الدين، فبقي بدر الدين بعد أخذ هرور يسيراً، وعاد إلى الموصل، وترك العسكر بحاله مع ابنه أمين الدين لؤلؤ، فبقي الحصار إلى أول ذي القعدة، فأرسلوا يذعنون بالطاعة، ويطلبون العوض عنها ليسلموها، فاستقرت القواعد على العوض من قلعة يحتمون فيها، وأقطاع، ومال، وغير ذلك، فأجابهم بدر الدين إلى ما طلبوا، وحضر نوابهم ليحلفوا بدر الدين.
فبينما هو يريد أن يحلف لهم وقد أحضر من يشهد اليمين إذ قد وصل طائر من العمادية وعلى جناحه رقعة من أمين الدين لؤلؤ يخبر أنه قد ملك العمادية قهراً وعنوة، وأسر بني خواجه الذين كانوا تغلبوا عليه، فامتنع بدر الدين من اليمين.
وأما سبب غلبة أمين الدين عليها، فإنه كان قد ولاه بدر الدين عليها لما عاد أهلها إلى طاعته، فبقي فيها مدة، وأحسن فيهم، واستمال جماعة منهم ليتقوى بهم على الحرب للذين عصوا أولاً، فنمى الخبر إليهم، فأساؤوا مجاورته، واستقالوا من ولايته عليهم، ففارقهم إلى الموصل.
وكان أولئك الذين استمالهم يكاتبونه ويراسلونه، فلما حصرهم كانوا أيضاً يكاتبونه في النشاب يخبرونه بكل ما يفعله أولاد خواجة من إنفاذ رسول وغير ذلك، وبما عندهم من الذخائر وغيرها، إلا إنهم لم يكونوا من الكثرة إلى حد أنهم يقهرون أولئك.
فلما كان الآن واستقرت القواعد من التسليم لم يذكر أولاد خواجه أحداً من جند القلعة في نسخة اليمين بمال، ولا غيره من أمان، وإقطاع، فسخطوا هذه الحال، وقالوا لهم: قد حلفتم لأنفسكم بالحصون والقرى والمال، ونحن قد خربت بيوتنا لأجلكم، فلم تذكرونا؛ فأهانوهم، ولم يلتفتوا إليهم، فحضر عند أمين الدين رجلان منهم ليلاً، وطلبوا منه أن يرسل إليهم جمعاً يصعدونهم إلى القلعة، ويثبون بأولئك ويأخذونهم، فامتنع، فقال: أخاف أن لا يتم هذا الأمر ويفسد علينا كل ما فعلناه. فقالوا: نحن نقبض عليهم غداً بكرة، وتكون أنت والعسكر على ظهر، فإذا سمعتم النداء باسم بدر الدين وشعاره تصعدون إلينا؛ فأجابهم إلى ذلك.
وركب بنفسه بكرة هو والعسكر على العادة، وأما أولئك فإنهم اجتمعوا، وقبضوا على أولاد خواجة ومن معهم، ونادوا بشعار بدر الدين، فبينما العسكر قيام إذا الصوت من القلعة باسم بدر الدين، فصعدوا إليها وملكوها، وتسلم أمين الدين أولاد خواجه فحبسهم، وكتب الرقعة على جناح الطائر بالحال، وملكوا القلعة صفواً وعفواً بغير عوض، وكان يريد أن يغرم مالاً جليلاً، وأقطاعاً كثير، وحصناً منيعاً، فتوفر الجميع عليه، وأخذ منهم كل ما احتقبوه وادخروه؛ وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ليلة الأحد العشرين من صفر زلزلت الأرض بالموصل، وديار الجزيرة والعراق، وغيرها، زلزلة متوسطة.
وفيها اشتد الغلاء بالموصل، وديار الجزيرة جميعها، فأكل الناس الميتة، والكلاب، والسنانير، فقلت الكلاب والسنانير بعد أن كانت كثيرة. ولقد دخلت يوماً إلى داري، فرأيت الجواري يقطعن اللحم ليطبخنه، فرأيت سنانير استكثرتا، فعددتها، فكانت اثني عشر سنوراً، ورأيت اللحم في هذا الغلاء في الدار وليس عنده من يحفظه من السنانير لعدمها، وليس بين المرتين كثير. وغلا مع الطعام كل شيء فبيع رطل الشيرج بقيراطين بعد أن كان بنصف قيراط قبل الغلاء، وأما قبل ذلك فكان كل ستين رطلاً بدينار.
ومن العجب أن السلق والجزر والشلجم بيع كل خمسة أرطال بدرهم، وبيع البنفسج كل ستة أرطال بدرهم، وبيع في بعض الأوقات كل سبعة أرطال بدرهم، وهذا ما لم يسمع بمثله. فإن الدنيا ما زالت قديماً وحديثاً، إذا غلت الأسعار، متى جاء المطر رخصت، إلا هذه السنة فإن الأمطار ما زالت متتابعة من أول الشتاء إلى آخر الربيع، وكلما جاء المطر غلت الأسعار، وهذا ما لم يسمع بمثله، فبلغت الحنطة مكوك وثلث بدينار وقيراط، يكحون وزنه خمسة وأربعين رطلاً دقيقاً بالبغدادي، وكان الملح مكوك بدرهم، فصار المكوك بعشرة دراهم، وكان الأرز مكوك باثني عشر درهماً، فصار المكوك بخمسين درهماً، وكان التمر كل أربعة أرطال وخمسة أرطال بقيراط، فصار كل رطلين بقيراط.
ومن عجيب ما يحكى أن السكر النادر الأسمر كان كل رطل بدرهم وربع، وكان السكر الأبلوج المصري النقي كل رطل بدرهمين، فصار السكر الأسمر كل رطل بثلاثة دراهم ونصف، والسكر الأبلوج كل رطل بثلاثة دراهم وربع؛ وسبه أن الأمراض لما كثرت، واشتد الوباء، قالت النساء: هذه الأمراض باردة والسكر الأسمر حار فينفع منها، والأبلوج بارد يقويها؛ وتبعهن الأطباء استمالة لقلوبهن، ولجهلهم، فغلا الأسمر بهذا السبب؛ وهذا من الجهل المفرط.
وما زالت الأشياء هكذا إلى أول الصيف، واشتد الوباء، وكثر الموت والمرض في الناس، فكان يحمل على النعش الواحد عدة من الموتى، فممن مات فيه شيخنا عبد المحسن بن عبد الله الخطيب، الطوسي، خطيب الموصل، وكان من صالحي المسلمين، وعمره ثلاث وثمانون سنة وشهور.
وفيها انخسف القمر ليلة الثلاثاء خامس عشر صفر.
وفيها هرب أمير حاج العراق، وهو حسام الدين أبو فراس الحلي، الكردي، والورامي، وهو ابن أخي الشيخ ورام؛ وكان عمه من صالحي المسلمين وخيارهم من أهل الحلة السيفية، فارق الحاج بين مكة والمدينة وسار إلى مصر.
حكى لي بعض أصدقائه أنه إنما حمله على الهرب كثرة الخرج في الطريق، وقلة المعونة من الخليفة، ولما فارق الحاج خافوا خوفاً شديداً من العرب، فأمن الله خوفهم، ولم يذعرهم ذاعر في جميع الطريق، ووصلوا آمنين، إلا أن كثيراً من الجمال هلك، أصابها غدة عظيمة فلم يسلم إلا القليل.
وفيها، في آب، جاء مطر شديد ورعد وبرق، ودام حتى جرت الأودية، وامتلأت الطرق بالوحل؛ ثم جاء الخبر من العراق، والشام، والجزيرة، وديار بكر، أنه كان عندهم مثله، ولم يصل إلينا بالموصل أحد إلا وأخبر أن المطر كان عندهم مثله في ذلك التاريخ.
وفيها كان في الشتاء ثلج كثير، ونزلت بالعراق، فسمعت أنه نزل في جميع العراق، حتى في البصرة؛ أما إلى واسط فلا شك فيه؛ وأما البصرة فإن الخبر لم يكثر عندنا بنزوله فيها.
وفيها خربت قلعة الزعفران من أعمال الموصل، وهي حصن مشهور يعرف قديماً بدير الزعفران، وهو على جبل عال قريب من فرشابور.
وفيها أيضاً خربت قلعة الجديدة من بلد الهكارية، من أعمال الموصل أيضاً، وأضيف عملها وقراها إلى العمادية.
وفيها، في ذي الحجة، سار جلال الدين بن خوارزم شاه من تبريز إلى بلد الكرج قاصداً لأخذ بلادهم واستئصالهم، وخرجت السنة ولم يبلغنا أنه فعل بهم شيئاً، ونحن نذكر ما فعله بهم سنة ثلاث وعشرين وستمائة إن شاء الله.
وفيها، ثالث شباط، سقط ببغداد ثلج، وبرد الماء برداً شديداً، وقوي البرد حتى مات به جماعة من الفقراء.
وفيه، في ربيع الأول، زادت دجلة زيادة عظيمة، واشتغل الناس بإصلاح سكر القورج، وخافوا، فبلغت الزيادة قريباً من الزيادة الأولى ثم نقص الماء واستبشر الناس. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وعشرين وستمائة:

.ذكر ملك جلال الدين تفليس:

في هذه السنة، ثامن ربيع الأول، فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج؛ وسبب ذلك أنا قد ذكرنا سنة اثنتين وعشرين وستمائة الحرب بينه وبينهم، وانهزامهم منه، وعوده إلى تبريز بسبب الخلف الواقع فيها، فلما استقر الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج في ذي الحجة من السنة، وخرجت سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ودخلت هذه السنة، فقصد بلادهم، وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم، فاجتمعوا في جمع كثير لا يحصى، فطمعوا بذلك، ومنتهم أنفسهم الأباطيل، ووعدهم الشيطان الظفر، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، فلقيهم، وجعل لهم الكمين في عدة مواضع، والتقوا واقتتلوا، فولى الكرج منهزمين لا يلو ي الأخ على أخيه، ولا الوالد على ولده، وكل منهم قد أهمته نفسه، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، فلم ينج منهم إلا اليسير الشاذ الذي لا يعبأ به؛ وأمر جلال الدين عسكره أن لا يبقوا على أحد، وأن يقتلوا من وجدوا، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم، وأشار عليه أصحابه بقصد تفليس دار ملكهم، فقال: لا حاجة لنا إلى أن نقتل رجالنا تحت الأسوار، إنما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفواً عفواً.
ولم تزل العساكر تتبعهم وتستقصي في طلبهم إلى أن كادوا يفنونهم، فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها. وسار في بعض الأيام في طائفة من العسكر، وقصدها لينظر إليها، ويبصر مواضع النزول عليها، وكيف يقاتلها، فلما قاربها كمن أكثر العسكر الذي معه في عدة مواضع، ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس، فلما رآه من بها من الكرج طمعوا فيه لقلة من معه، ولم يعلموا أنه معهم، فظهروا إليه فقاتلوه، فتأخر عنهم، فقوي طمعهم فيه لقلة من معه، فظنوه منهزماً، فتبعوه، فلما توسطوا العساكر خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل أكثرهم، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها، وتبعهم المسلمون، فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام، وباسم جلال الدين، فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا، لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات المذكورة، فقل عددهم، وملئت قلوبهم خوفاً ورعباً، فملك المسلمون البلد عنوة وقهراً بغير أمان، وقتل كل من فيه من الكرج، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام، وأقر بكلمتي الشهادة، فإنه أبقى عليه، وأمرهم فتختنوا وتركهم.
ونهب المسلمون الأموال، وسبوا النساء واسترقوا الأولاد، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره.
وتفليس هذه من أحصن البلاد وأمنعها، وهي على جانبي نهر الكر، وهو نهر كبير، ولقد جل هذا الفتح وعظم موقعه في بلاد الإسلام وعند المسلمين، فإن الكرج كانوا قد استطالوا عليهم، وفعلوا بهم ما أرادوا، فكانوا يقصدون أي بلاد أذربيجان أرادوا، فلا يمنعهم عنها مانع، ولا يدفعهم عنها دافع؛ وهكذا أرزن الروم، حتى إن صاحبها لبس خلعة ملك الكرج، ورفع على رأسه علماً في أعلاه صليب، وتنصر ولده رغبة في نكاح ملكة الكرج، وخوفاً منهم، ليدفع الشر عنه، وقد تقدمت القصة، وهكذا دربند شروان.
وعظم أمرهم إلى حد أن ركن الدين بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا، وملطية، وسائر بلاد الروم التي للمسلمين، جمع عساكره، وحشد معها غيرها فاستكثر، وقصد أرزن الروم، وهي لأخيه طغرل شاه بن قلج أرسلان، فأتاه الكرج وهزموه، وفعلوا به وبعسكره كل عظيم، وكان أهل دربند شروان معهم في الضنك والضيقة.
وأما أرمينية، فإن الكرج دخلوا مدينة أرجيش، وملكوا قرس وغيرها، وحصروا خلاط، فلولا أن الله سبحانه من على المسلمين بأسر إيواني، مقدم عساكر الكرج، لملكوها، فاضطر أهلها إلى أن بنوا لهم بيعة في القلعة يضرب فيها الناقوس، فرحلوا عنهم، وقد تقدم تفصيل هذه الحلمة.
ولم يزل هذا الثغر من أعظم الثغور ضرراً على المجاورين له من الفرس، قبل الإسلام، وعلى المسلمين بعدهم، من أول الإسلام إلى الآن، ولم يقدر أحد عليهم هذا الإقدام، ولا فعل بهم هذه الأفاعيل، فإن الكرج ملكوا تفليس سنة خمس عشرة وخمسمائة، والسلطان حينئذ محمود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي، وهو من أعظم السلاطين منزلة، وأوسعهم مملكة، وأكثرهم عساكر، فلم يقدر على منعهم عنها؛ هذا مع سعة بلاده، فإنه كان له الري وأعمالها، وبلد الجبل، وأصفهان، وفارس، وخوزستان، والعراق، وأذربيجان، وأران، وأرمينية، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، والشام، وغير ذلك، وعمه السلطان سنجر له خراسان وما وراء النهر، فكان أكثر بلاد الإسلام بأيديهم، ومع هذا فإنه جمع عساكره سنة تسع عشرة وخمسمائة، وسار إليهم بعد أن ملكوها، فلم يقدر عليهم.
ثم ملك بعده أخوه السلطان مسعود، وملك الدكز بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأران، وأطاعه صاحب خلاط، وصاحب فارس، وصاحب خوزستان، وجمع وحشد لهم، وكان قصاره أن يتخلص منهم، ثم ابنه البهلوان بعده؛ وكانت البلاد في أيام أولئك عامرة كثيرة الأموال والرجال، فلم يحدثوا أنفسهم بالظفر بهؤلاء، حتى جاء هذا السلطان والبلاد خراب قد أضعفها الكرج أولاً، ثم استأصلها التتر، لعنهم الله، على ما ذكرنا، ففعل بهم هذه الأفاعيل، فسبحان من إذا أراد أمراً قال له كن فيكون.

.ذكر مسير مظفر الدين صاحب إربل إلى الموصل وعوده عنها:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، سار مظفر الدين بن زين الدين، صاحب إربل، إلى أعمال الموصل، قاصداً إليها. وكان السبب في ذلك أنه استقرت القاعدة بينه وبين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الملك المعظم، صاحب دمشق، وبين صاحب آمد، وبين ناصر الدين، صاحب ماردين، ليقصدوا البلاد التي بيد الأشرف، ويتغلبوا عليها، ويكون لكل منهم نصيب ذكره؛ واستقرت القواعد بينهم على ذلك، فبادر فظفر الدين إلى الموصل.
وأما جلال الدين فإنه سار من تفليس يريد خلاط، فأتاه الخبر أن نائبه ببلاد كرمان، واسمه بلاق حاجب، قد عصى عليه، على ما نذكره، فلما أتاه الخبر بذلك ترك خلاط ولم يقصدها، إلا أن عسكره نهب بعض بلدها وخرب كثيراً منه، وسار مجداً إلى كرمان، فانفسخ جميع ما كانوا عزموا عليه، إلا أن مظفر الدين سار من إربل ونزل على جانب الزابن ولم يمكنه العبور إلى بلد الموصل.
وكان بدر الدين قد أرسل من الموصل إلى الأشرف، وهو بالرقة، يستنجده، ويطلب منه أن يحضر بنفسه الموصل ليدفع مظفر الدين، فسار منها إلى حران، ومن حران إلى دنيسر، فخرب بلد ماردين وأهله تخريباً ونهباً.
وأما المعظم، صاحب دمشق، فإنه قصد بلاد حمص وحماة، وأرسل إلى أخيه الأشرف يقول: إن رحلت عن ماردين وحلب، وأنا عن حمص وحماة، وأرسلت إلى مظفر الدين ليرجع عن بلد الموصل؛ فرحل الأشرف عن ماردين وعاد كل منهم إلى بلده، وخربت أعمال الموصل، وأعمال ماردين بهذه الحركة، فإنها كانت قد أجحف بها تتابع الغلاء وطول مدته، وجلاء أكثر أهلها، فأتتها هذه الحادثة فازدادت خراباً على خراب.

.ذكر عصيان كرمان على جلال الدين ومسيره إليها:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، وصل الخبر إلى جلال الدين أن نائبه بكرمان، وهو أمير كبير اسمه بلاق حاجب، قد عصى عليه، وطمع في البلاد أن يتملكها ويستبد بها لبعد جلال الين عنها، واشتغاله بما ذكرناه من الكرج وغيرهم، وأنه أرسل إلى التتر يعرفهم قوة جلال الدين وملكه كثيراً من البلاد، وإن أخذ الباقي عظمت مملكته، وكثرت عساكره، وأخذ ما بأيديكم من البلاد.
فلما سمع جلال الدين ذلك كان قد سار يريد خلاط، فتركها وسار إلى كرمان يطوي المراحل، وأرسل بين يديه رسولاً إلى صاحب كرمان، ومعه الخلع ليطمئن ويأتيه وهو غير محتاط ولا مستعد للامتناع منه؛ فلما وصل الرسول علم أن ذلك مكيدة عليه لما يعرفه من عادته، فأخذ ما يعز عليه، وصعد إلى قلعة منيعة فتحصن بها، وجعل من يثق به من أصحابه في الحصون يمتنعون بها، وأسل إلى جلال الدين يقول: إنني أنا العبد والمملوك؛ ولما سمعت بمسيرك إلى هذه البلاد أخليتها لك لأنها بلادك، ولو علمت أنك تبقي علي لحضرت بابك، ولكني أخاف هذا جميعه؛ والرسول يحلف له أن جلال الدين بتفليس، وهو لا يلتفت إلى قوله، فعاد الرسول، فعلم جلال الدين أنه لا يمكنه أخذ ما بيده من الحصون لأنه يحتاج أن يحصرها مدة طويلة، فوقف بالقرب من أصفهان، وأرسل إليه الخلع، وأقره على ولايته.
فبينما الرسل تتردد إذ وصل رسول من وزير جلال الدين إليه من تفليس يعرفه أن عسكر الملك الأشرف الذي بخلاط قد هزموا بعض عسكره وأوقعوا بهم، ويحثه على العود إلى تفليس فعاد إليهم مسرعاً.

.ذكر الحب بين عسكر الأشرف وعسكر جلال الدين:

لما سار جلال الدين إلى كرمان ترك بمدينة تفليس عسكراً مع وزيره شرف الملك، فقلت عليهم الميرة، فساروا إلى أعمال أرزن الروم، فوصلوا إليها، ونهبوها، وسبوا النساء، وأخذوا من الغنائم شيئاً كثيراً لا يحصى، وعادوا فكان طريقهم على أطراف ولاية خلاط، فسمع النائب عن الأشرف بخلاط، وهو الحاجب حسام الدين علي الموصل، فجمع العسكر وسار إليهم، فأوقع بهم، واستنقذ ما معهم من الغنائم، وغنم كثيراً مما معهم، وعاد هو وعساكره سالمين.
فلما فعل ذلك خاف وزير جلال الدين منهم، فأرسل إلى صاحبه بكرمان يعرفه الحال، ويحثه على العود إليه، ويخوفه عاقبة التواني والإهمال، فرجع فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله:

في هذه السنة، في الرابع عشر من رجب، توفي الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، وقد تقدم نسبه عند وفاة أبيه، رضي الله عنهما، فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، وكان نعم الخليفة، جمع الخشوع مع الخضوع لربه، والعدل والإحسان إلى رعيته، وقد تقدم عند ذكر ولايته الخلافة من أفعاله ما فيه كفاية؛ ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية، فرضي الله عنه وأرضاه، وأحسن منقلبه ومثواه، فلقد جدد من العدل ما كان دارساً، وأذكر من الإحسان ما كان منسياً.
وكان قبل وفاته أخرج توقيعاً إلى الوزير بخطه ليقرأه على أرباب الدولة، وقال الرسول: أمير المؤمنين يقول: ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم، أو نفذ مناك، ثم لا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال؛ فقرأوه، فإذا في أوله بعد البسملة: اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً، ولا إغضاؤنا إغفالاً، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملاً، وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا، وتقبيح السمعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكاً لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد وأنتم أمناؤه وثقاته، فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمرجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمناً، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقاً، ورزقكم سلطاناً يقيل العثرة ويقبل المعذرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر؛ يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى، فيخوفكم مكره، ويرجوا الله تعالى، ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم، والسلام.
ولما توفي وجدوا في بيت، في داره، ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها، فقيل له ليفتحها، فقال: لا حاجة لنا فيها، كلها سعايات.
ولم أزل، علم الله سبحانه، مذ ولي الخلافة، أخاف عليه قصر المدة لخبث الزمان وفساد أهله، وأقول لكثير من أصدقائنا: وما أخوفني أن تقصر مدة خلافته، لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته؛ فكان كذلك.